في ٢٠١٠ كتب الشاعر الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح عن مجموعتي الشعرية الأولى “كاريس” كلاماً رَسَمَ به جناحين لشاعرٍ في انطلاقته الأولى وقال له حَلّق..
______________________________
تقديم
د. عبدالعزيز المقالح
تثير المجموعة الشعرية “كاريس” للشاعر نبيل القانص حالة من الدهشة غير المتوقعة، فقد نجح منذ بداياته الأولى في أن يثبت للقارئ أن الشعر الجديد أو بالأحرى الأجد لا يذهب بالشعر كما يدعي المرجفون إلى الموت البطيء بل إلى حياة جديدة سامقة وأن هذا الشاعر الواعد بالكثير استطاع عبر بداياته هذه أن يُشعل الحواس، وأن يقدم إلينا شعراً لم نقرأه من قبل أو يذكرنا بما كنا قرأناهُ سابقاً.
وربما يثيرُ عنوان المجموعة وهو “كاريس” تساؤلات كثيرة، لكن هذه التساؤلات تغيب في غمرة القراءة، ومع الانخراط في الاستمتاع بلذة النص عبر لغته التي تُضيءُ عبر جماليات صوره المدهشة بما حفلت به من بساطة وصفاء وما نجحت في تجاوزه من مفاهيم تتعلق بالوضوحِ والغموض وما حققته من إيقاع داخلي عذب يتسلل إلى أعماق الوجدان.
هكذا بدا لي نبيل القانص شاعراً في مقتبل العمر يعرف كيف يقتنص التعبيرات الشعرية ويصطاد الصور، وكيف يضع القارئ بسلاسة في رحاب شعر لا تُخفي كثافته رموزه، ولا يطفئ الإبهام رؤاه العميقة.
والشاعر خريج قسم لغة فرنسية، ومن المتحمل وربما من المؤكد أنه تأثر بمناخ الشعر الفرنسي الذي يكون قد قرأه في لغته الأصلية.
وإذا كان شيء من ذلك قد حدث فإنه لا يخفي ملامح الشاعر وهو في خطواته الأولى، ولا يقلل من موهبته البازغة في شكل هذه القصيدة المطولة التي لم يرغب في تفتيتها تحت عناوين كثيرة قد تدل أو لا تدل على شيء مما يريد أن يوصله إلى القارئ بعيداً عما تصالح عليه الشعراء مع القراء.
وكأنه لا يريد أن يكسر طاقة الهجس والتوتر اللذين يخلقهما نص متعدد المسارات يعبر عن نفسه بسخاء ويستهل وجوده بالحديث عن جسد ظامئ مستيقظ ونائم في آن.
قد يكون جسد (كاريس) هذه التي حملت عنوان النص الشعري الطويل وتنفست مشاعرها من خلاله:
آااه
كم أتمنى أن أنام عارية
من كل همومي السادية
التي تمارس معي الكوابيس
كل ليلة ..
لقد جرّدَت الهمومُ المفردةَ (عارية) من دلالتها الجنسية، كما جرّدَت الكوابيسُ مفردةَ (الممارسة) من الدلالة نفسها، لذلك سيبدو النصُّ مستساغاً ومقبولاً من أولئك الذين يشهرون خناجرهم في وجه بعض التعابير الشعرية التي يعجزون عن اكتناه معانيها.
ولو كان وقتي بيدي لتناولتُ بالتحليل كل مقطعٍ في هذا النص البديع، ولوقفتُ عند كل صفحة مدللاً على أننا إزاء شاعر يستحق هذه الصفة بامتياز.
وأثقُ أن أحداً لن يصف كلماتي هذه بالمبالغة بعد أن يقرأ هذا المقطع
في الجوارِ
على التلّةِ المبتَلَّةِ
بالرجاء
تصلي حبيبتي
على سجادة من البنفسج
توزع الهدايا على الملائكة
تمدُّ يديها إلى الله
إلهي…
أن يضيعَ لمعاني
أجمل من أن ينطفئ العالم
أن يتطايرَ فُتاتي
أحقُّ مِن أن لا يأكلَ الأطفالُ
خبزاً.
طالما وصف المخالفون لهذا النوع من الشعر أنه “سايب” وبلا معانٍ، ربما كان معهم الحق في أنه تخلص من الإيقاع الخارجي، لكن حمولته من المعنى تعجز عن حمله قصائد كثيرة موزونة، فهل يشفع له ذلك عندهم؟ والسؤال الأهم هل مايزال شعراء الأجد بحاجة إلى من يشفع لهم أو يتوسط لدى أصحاب الذائقة التقليدية التي لم يدركها التطور ولم تحاول أن تفهم الأسباب الفنية لهذا الخروج الذي منح الشعر كل هذه القدرة على التحليق في فضاءات واسعة من الخيال الذي يغني الوجدان ويثري الواقع؟
سيدي المطر …
مازالت خزائنك
عامرة بالحب
مازال الفقراء يؤمنون بك
مازال العشب
يؤثث شوقه إليك
كلما استعادت الشمس طفولتها.
أعترفُ أني معجب وفخور بهذا الشاعر، وأنتظرُ على يديه الكثير للشعر الذي بات ضرورياً للتخفيف من متاعب البشريةِ وأحزانِها.
كلية الآداب – جامعة صنعاء
٢٠١٠/١٠/٢٧
Discussion about this post